الأب عفيف عسيران، لبناني شيعي من مواليد صيدا 1919. إعتنق المسيحيّة سنة 1945. سيمَ كاهناً في العام 1962. توفي سنة 1988. انطلقت المحكمة الخاصّة للنظر بدعوى تطويبه في 9 كانون الثاني 2016.
حياته قبل اعتناقه المسيحيّة
ولد الأب عفيف عسيران في عائلة شيعيّة في صيدا، جنوب لبنان، في العام 1919، الثالث من أسرة تتألّف من إبنتين وأربعة أبناء، والده إحسان أحمد عسيران، ووالدته عفيفة توفيق عسيران. تجدر الاشارة الى أنّ شقيقته مَيْمَنة كانت متزوجة من النائب والوزير العراقي، زمن الملَكيّة هناك، الدكتور عبد المجيد عبّاس الحَيدري. وأنّ إبن خالته هو أياد علاوي الذي أصبح أوّل رئيس وزراء للعراق بعد الإطاحة بصدّام حسين. ومن أقربائه أيضاً الرئيس عادل عسيران وهو سياسي لبناني ومن زعماء الاستقلال. ورئيس مجلس النواب ووزيرفي العديد من حكومات.
يروي الأب عفيف: "ولدتُ في صيدا سنة 1919 وسجل إسمي على ورقة مضمومة إلى القرآن أحمد عفيف . بدأت المدرسة في المقاصد في صيدا، ثم في المدرسة الحكومية الابتدائية "الرشدية"، وقضيت أربع سنوات التكميلية في مدرسة الفرير المريميين . كنت مولعاً بالرياضة على أنواعها وبالكشفية وبالانحرافات والاستهتار والهوس السياسي."
ا"لأنني تربّيتُ في عائلة متمسّكة بممارسة الشعائر الدينيّة، اهتميتُ، منذ صغري بالتقاليد الاسلاميّة وتطبيقاتها وبكلّ ما له علاقة بالدين. حفظتُ القرآن عن ظهر قلب وكنتُ مُثابراً على كلّ الممارسات. في سنّ الثالثة عشر أو الرابعة عشر ، وكباقي أبناء ديني، انقطعتُ عن الممارسة الدينيّة".
ويُكمل الأب عفيف: "أخفقت في الشهادة التكميلية سنة 1938 فاستيقظت من غفلتي وإهمالي وكسلي في تحصيل العلم . والتحقت بكلية المقاصد في بيروت. حصلت على البكلوريا القسم الثاني سنة 1940 فحظيت بمنحة لمتابعة دروسي في الجامعة الأمريكية . فقضيت ثلاثة أشهر تعلمت أثناءها مبادئ اللغة الانكليزية إذ كنت أجهلها تماماً. تبعثها سنتان حصلت بنهايتها على درجة في الفلسفة سنة 1943. ثم عينت موظفاً في وزارة الاقتصاد ...، وبقيت على اتصال بمحيط الجامعة الأمريكيّة".
قال الأب عفيف أنّه كان مُلحداً، وأنّه تحرّر من الإلحاد عام 1943، وعاد الى ممارسة فرائض الإسلام: "عشت مُلحداً في المقال والحال طيلة دراستي الثانوية والجامعية، وقد اتخذتُ من دراستي الفلسفة الكنتية سنداً لتبرير إلحادي بالله وشكوكي في مقدرة العقل على معرفة الماورائيات.
فبذلتُ جهودي كلها لأبعد فكرة الله التي كانت تفرض ذاتها عليَّ . وعلى الرغم من كل المحاولات بقي الله يلاحقني بطريقة حادة ومُلحّة . وانتهى بأن فرض ذاته عليَّ . هذه المرّة، استسلمتُ ، ولم يبقَ لديّ شك بوجود الله : الله موجود، وهو الذي خلقني، ويستحيل عليَّ الهرب.
|
توجّهتُ لله بالمناجاة والصلوات طالباً المزيد من معرفة الخالق: من أنت ربّي وإلهي! لماذا خلقتني وكيف تريدني أعيش في هذه الحياة الدنيا؟
اتضح لي ضرورة الاستعانة بتعاليم الأنبياء، فهم المرسلون الأمناء على ما أوصى الله لهم ليبلغوه للناس. فاخترت الإسلام ديناً لأنه جامع لتعاليم الأديان السماوية وأن محمداً خاتم النبيين. باشرت بممارسة فرائض الإسلام بصدق وإخلاص وتأملت كثيراً في القرآن وتفاسيره والسنة والسيرة وكتب المتصوفين والفلاسفة والمتكلّمين والمتعبّدين".
|
في أحد الأيام، أثناء الصّلاة، مرّ باختبار روحي عميق."وفي ليلة بينما كنتُ أصلّي |
اعتناقه المسيحيّة
يروي الأب عفيف عن تلك الفترة: "لم يكن لديَّ أيّة فكرة عن المسيحيّين والمسيحيّة ولا عن المسيح . ثمّ ذات يوم، صادفتُ الانجيل، فقرأت القدّيس متى، وتوقفتُ عند العظة على الجبل: "لقد قيل لكم .... أمّا أنا فأقول لكم..." ... "لقد قيل لكم ... أمّا أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم . . .". هذا المثال المُقترح من قبل المسيح كان برهاناً على أن المسيح لم يكن، وهماً، ولا الإنجيل كان وهماً، فإنّ الذي وضعه لا يمكن أن يكون أقلّ شأناً من محمّد وقد جاء قبله بستمئة عام. وبدأتُ أُفتّش. فطفتُ على المكتبات لأتأكد من صحّة الإنجيل. وطالعتُ وثائق أكيدة تعود الى أواخر القرن الأول للمسيحيّة، واستخلصت من قراءاتي أنّ الانجيل في جوهره كان صحيحاً. فحينئذ فهمتُ أن المسيح، إياه، يمكن أن يرشدني إلى الله. |
ا "في أواخر 1944 انكشف لي أن تعاليم القرآن تناقض تعاليم الانجيل، وأن محمداً يرفض الاقرار بألوهية المسيح وصلبه وموته، وقيامته كما يرفض الايمان بالإله الواحد المثلّث الأقانيم ، كما يرفض الاعتراف بوجوب الاقتداء بالمسيح شرطاً للحصول على الخلاص. وثبت عندي أن ما بشّر به رسل المسيح وما كتبوه وما نُقل عنهم في الأناجيل من أقوال المسيح وأعماله هو حق. وثبت عندي ثبوتاً قاطعاً بأن الله لا يمكن أن يناقض نفسه فيوحي بعد مرور ستمائة سنة على تجسّده تعاليم تناقض ما قاله المسيح عن ألوهيته والوهية الثالوث الأقدس. |
ا "ثم أتضح لي بعد الاطلاع على الكنائس المسيحيّة أن الكنيسة الرسوليّة الواحدة المقدّسة الجامعة هي كنيسة المسيح الحافظة للتعاليم المؤتمنة على توزيع اسراره وإقامة شعائره القُدسيّة فهي ركن الحقّ ودعامته . عندها طلبتُ الدخول في الكنيسة الكاثوليكيّة حسب الطقس اللاتيني. فاستجيب طلبي وتلقنت أركان الدين المسيحي على يد المرحوم الأب أبيلا اليسوعي واقتبلت سرّ المعمودية والتثبيت في العاشر من شباط 1945" (في سنّ الخامسة والعشرين). ا
أنا اخترتُ المسيح
بتسهيل من قريبه عادل عسيران، الذي كان حينذاك وزيراً، ومن الأهل الذين أمِلوا بأن يغيّر أفكاره، سافر أواخر عام 1945 الى بلجيكا حيث التحق بجامعة لوفان وفيها نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة فضلاً عن اجازة في العلوم الإجتماعيّة والسياسيّة.
عاد عام 1949 الى مدينته صيدا حيث شرع يقوم بشتّى الخدمات الاجتماعيّة والانسانيّة حيال الطبقات الفقيرة ويُعايش الفقراء.
|
عفيف الشاب
|
يُخبر الأب عفيف عن عودته ومسيرته في صيدا: "كانت عائلتي الكبيرة أوّل من عرف مسيرتي، فأُصيبت بصدمة . بادىء الأمر لم يقبلوا أن يتعرفوا علي، ولكنهم عندما لاحظوا بأن الأناس الأغراب ارتاحوا لي، ما عادوا متخوّفين، وعرفوا بأن لا هدف لي سوى أن أخدم المسيح تقبلوا الأمر. أبي الله يرحمه، رغم أنه كان مُمارِساً لحياته الدينية الإسلامية (كان يعتمر طربوشاً مع لفة إشارة إلى أنه حاج)، كان لا يخجل بي أمام الناس وكان يردّ على الذين ينعتونني بالكفر : "أتمنى لو كان لأحد ما الإيمان الذي هو لإبني". وكنا في أكثر الأحيان نصلي معاً، فأقرأ له الآيات القرآنية وكنا حقاً أصدقاء.
في البداية لم يتنبه الناس الى الأمر، ولكن بعد بعض الوقت عرفوا بوضعي، فاعترتهم الدهشة والذهول. فقرّرتُ ، إذاك العيش في أوساط بيئتي الفقيرة، أن أكون بين الفقراء بالقرب منهم. |
كنتُ أرى الإنفتاح في الطبقة العاملة، في حياة الفقر، التي هي حياة المحبة الحقيقية. خدمتُ أجيراً فى الفرن مدة شهرين. وعندما كان الناس يتعجبون، كنتُ أقول : "الفرّان زلمي، هو خيّي". كما خدمت زبالاً في شوارع المدينة مدة شهرين آخرين. وكان العمّال يتعجبون حتى أن رئيسهم أخذ يبكي ويقول لى : "كيف، كيف أنا لا أفهم، فكنتُ أقول الشيء نفسه: "أنتَ أخي والشغل ليس عيباً ".
حاولتُ أن الزم نفسي بكل ما يمكن أن يخلق حياة أُخوّةٍ مع الفقراء. كنتُ أذهب الى المقاهي، الى كل مكان ... وأقصد الكنيسة علانيّةً وأُشارك في القداس. كنتُ أيضاً أقصد البحّارة لأفسح في المجال للجميع مقاربة الإنجيل ... كثيرون كانوا يبكون. كانوا يتعجبون من تصرّفي؛ كانوا شديدي الفقر، كلّهم. ورغم هذا، فمجرّد أن يعرفوا أنني مسيحي، كانوا يعتبرون ذلك تحقيراً لهم. ومرّةً قال لي أحدهم: "أتعرف يا عفيف، أنتَ رجلٌ مثقف وتفهم كلّ شيء، واختيارك المسيحيّين، اولئك الذين هزمناهم يعني أنهم أفضل منّا !" فقلتُ له: "يا أخي، ألا ترى أنني اخترتُ المسيح لا المسيحيّين، لأن المسيح هو الأفضل، فماذا تريدني أن أفعل؟ فأنا أرى أن المسيح هو من يقودني الى الله. وأنني اخترتُه هو بالحقيقة لا سواه، ولا أستطيع خيانته ولا حتى أُريد ذلك . فهل تريدني أن أخون ضميري؟" ا
حاولتُ أن الزم نفسي بكل ما يمكن أن يخلق حياة أُخوّةٍ مع الفقراء. كنتُ أذهب الى المقاهي، الى كل مكان ... وأقصد الكنيسة علانيّةً وأُشارك في القداس. كنتُ أيضاً أقصد البحّارة لأفسح في المجال للجميع مقاربة الإنجيل ... كثيرون كانوا يبكون. كانوا يتعجبون من تصرّفي؛ كانوا شديدي الفقر، كلّهم. ورغم هذا، فمجرّد أن يعرفوا أنني مسيحي، كانوا يعتبرون ذلك تحقيراً لهم. ومرّةً قال لي أحدهم: "أتعرف يا عفيف، أنتَ رجلٌ مثقف وتفهم كلّ شيء، واختيارك المسيحيّين، اولئك الذين هزمناهم يعني أنهم أفضل منّا !" فقلتُ له: "يا أخي، ألا ترى أنني اخترتُ المسيح لا المسيحيّين، لأن المسيح هو الأفضل، فماذا تريدني أن أفعل؟ فأنا أرى أن المسيح هو من يقودني الى الله. وأنني اخترتُه هو بالحقيقة لا سواه، ولا أستطيع خيانته ولا حتى أُريد ذلك . فهل تريدني أن أخون ضميري؟" ا
مع إخوة يسوع الصغار
تعرّف عفيف الشاب في صيدا، على شباب أجانب ينتمون الى جماعة رهبانيّة تدعى "إخوة يسوع الصغار" تأسست بتأثير من القدّيس الفرنسي شارل دي فوكو الذي عاش مُتنسّكاً في جنوب الصحراء الجزائريّة في مطلع القرن العشرين (والذي أُعلنت قداسته في 15 أيار 2022) . فعزم عام 1954 على الإنضمام الى هؤلاء الإخوة، وأقام معهم في الجزائر ومن ثم في فرنسا حيث أتمّ دراسة اللاهوت.
أقام لاحقاً مع الإخوة في ايران حيث تلقّن اللغة الفارسيّة، ونال من جامعة طهران شهادة دكتوراه في الأدب الفارسي تمحوَرت حول حياة وفكر المتصوّف والفيلسوف عين القضاة الهمذاني الذي مات صَلباً في سنّ الثالثة والثلاثين في العام 525 هجري (القرن الثاني عشر م.). والى ذلك، عايش المتصوّفين في ايران وافغانستان وباكستان. بَيد أنّ المجلس الأعلى للإخوة رأى ان لعفيف دعوةً خاصةً يُفضّل أن يحافظ عليها، فرجع الى لبنان عام 1962. |
الأب عفيف : "وهناك (في إيران) عشتُ التجربة ذاتها مع الفقراء، حيث استقبلتُ ، حقاً ، كأخ . وفي أفغانستان وسط الفقراء... وبما أننى كنتُ أعرفُ ،القرآن كان البعض يريد لمسي وأخذ ثيابي للتبرك بها، فكنتُ، اذاك ، أقول لهم: "ولكن أنا مسيحي". كوني مسيحي كان بنظرهم سرّاً ... وأيُّ سرّ، حقاً، أن يُجذَب الانسان الى المسيح!
|
عفيف الكاهن
عاد عفيف إلى لبنان وقرّر أن يعيش الحياة الإنجيليّة بين إخوانه المسلمين. نصحه الأب فيّوم، رئيس إخوة يسوع الصغار، بالانضمام إلى أبرشية بيروت، وهكذا كان، وما لبث أن سِيم كاهناً في أبرشية بيروت المارونيّة بوضع يد المطران اغناطيوس زياده، الذي سمح له بالاحتفاظ بالزيّ المدني العلماني، في كنيسة السيدة عين سعاده في 23 شباط 1962.
درّس الأب عفيف الفلســفة والفكـر الاسـلامي في الجامعة اللبنـانيّة والجــامعة اليســوعيّة.
درّس الأب عفيف الفلســفة والفكـر الاسـلامي في الجامعة اللبنـانيّة والجــامعة اليســوعيّة.
أسّس عام 1964 "بيت العناية الإلهيّة بالأولاد المشرّدين" في بلدة الفنار بالقرب من بيروت، وهي مؤسّسة داخليّة وخارجيّة تُعنى بالتربية الإنسانيّة والتدريب المهني للفتيان. وقد استحوذت على معظم نشاطه حتى مماته. وفي العام 1977، بعد اندلاع الحرب اللبنانيّة وتردّي الاوضاع الإجتماعيّة في البلاد، أقام لمؤسسته فرعاً في بلدة تبنين في الجنوب. نجا، العام 1986، من محاولة اغتيال داخل مؤسّسته في تبنين حيث أطلق عليه شابٌ النار من مسدّس مزوّد بكاتم ولاذ بالفرار. توقّف عمله في الجنوب منذ ذلك الوقت، بيد أن مؤسّسته في بلدة الفنار واصلت عملها، حتى بعد وفاته، وتديرها الآن هيئة مؤلّفة من أشخاص علمانيّين.
توفّي في بيروت، في 3 آب العام 1988، إثر جلطة رئويّة، ودُفن في مقابر "بيت الكاهن" في كفرا ــ عين سعاده. وبرغم انقسام البلاد واضطراب الوضع الأمني، أبَى الرئيس عادل عسيران الذي شغل رئاسة مجلس النواب سنوات عديدة، وكان قد بلغ من العمر عتيّاً، إلاّ ان يرافق جثمانه حتى مدفنه.
في عام 2006، تقدّم نحو خمسين شخصاً، بينهم مطارنة وكهنة وراهبات وعلمانيّون مسيحيّون ومسلمون، بطلب خطّي من سيادة مطران بيروت للموارنة يلتمسون فيه فتح دعوى تطويب الأب عفيف عسيران. وفي العام 2014 باشرت السُلطات المعنيّة في الكنيسة المارونيّة باجراءات هذه الدعوى.
تواصل معنا
Website designed by
NAANOUH PRODUCTIONS
NAANOUH PRODUCTIONS